فلسلفة التَّعَلُم من الحياة العملية

حكى لي احد معارفي انه كان يتدارس نصا في مقرر السنة السادسة ابتدائي حول البريد فصدم باسئلة التلاميذ عن البريد و وصف لي دهشتهم بعدما علموا ان بامكانهم هم ايضا ارسال رسائل عبر البريد،   هذه الحادثة ذكرتني بأول رسالة حاولت كتابتها و ذلك في سن الثماني سنوات وانا في الصف الثاني ابتدائي، لقد كانت طبعا رسالة بجمل جد ركيكة بل ان اغلبها كان ترجمة حرفية من العامية الى اللغة العربية ، لكن الاهم من ذلك هو اني و كباقي اقراني  في ذاك الوقت كنت اعرف ماهي الرسالة و كيف تكتب و كيف ترسل،  على نقيض هؤلاء التلاميذ الان. بالمقابل مما لا شك فيه ان الاطفال المعاصرين يتقنون استعمال التواصل التكنولوجي و يلمون بكل مايحيط به، بل ان من البالغين من يلجا اليهم لارسال رسائل الكترونية و رسائل قصيرة، كما انهم يتقنون و بشكل مثير ايضا اللغة المستحدثة في الدردشة  و جميع مختصراتها و اشاراتها، هذا كله دون ان يتلقوا اي دروس او توجيهات و دون ان تصنف في هذ المهارات مقررات تلقن في المدارس أو في مراكز خاصة، و نفس القاعدة تنطبق على اطفال ماقبل الطفرة التواصلية الحديثة, فالمراسلة عبر البريد كانت من الممارسات اليومية الروتينية ، فنحن منذ نعومة اظافرنا كنا نعرف ساعي البريد وكنا جميعا ننتظر  توصل اسرنا برسائل من باقي افراد عائلاتنا،  كنا نعرف ماهو الطابع البريدي, ودور الرقم الذي يدون على ابواب منازلنا دون ان نحتاج يوما الى درس خاص و شرح مستفيض من طرف مدرس, ودون ان نبذل اي مجهود في ذلك،  فاكتساب هذه المهارات حدث آنذاك و يحدث اليوم بشكل سلس و دون حتى ان يثير الانتباه،  و هذا هو عمق فلسفة التعلم من الحياة العملية .

خلافا لنظام التعيلم المتبع في المدرسة و الذي يرتكز اساسا على نقل المعرفة بين طرفين في اتجاه واحد في اطار مبرمج مسبقا وفق مقررات  وجدولة زمنية محددة و يعتمد  على وسائل وادوات نظرية و تلقينية دونما احترام للاختلاف في الميولات و الايقاع بين المتعلمين ، يعتبر التَّعَلُم من الحياة العملية  اسلوبا فطريا يعتمد الاكتساب الذاتي للمعرفة في اطار ماتتيحه البيئة المحيطة بالمتعلم ، فالانسان بفطرته ومنذ ولادته بل وحتى قبل ذلك ينطلق في رحلة تعلم غير منقطعة فمن اتقان استخدام اليدين الى الكلام مرورا بالحبو و المشي و التفاعل الاجتماعي و غيرها من المهارات التي يكتسبها الطفل قبل سن التمدرس،  كلها قدرات يتعلمها بشكل سلس دون ارهاق ولا جدولة و دون اي يحتاج الى ان يمتحن فيها من اطراف اخرى.


ان هذه القدرات الهائلة التي حبى الله بها الانسان و التي تساعده على امتصاص المعرفة من بيئته المحيطة به إن وظفت بشكل سليم ستوفر الكثير من الجهد و العناء سواء على المتعلم او المؤطر، فالتعرف مثلا على البريد قد لايحتاج تصنيف درس خاص في المقرر الدراسي متبوع بشرح و اسئلة ، و ربما يكون من الاسهل بكثير ان يعيش الطفل تجربة المراسلة بنفسه في جميع مراحلها. هذه التجربة عاشها ابناء مجموعة من اصدقائي، و يحكي لي احدهم ان استلام إبنته رسالة من صديقتها قد فتح لها بابا من الاسئلة الكثيرة : من اوصل الرسالة؟ و كيف علم اننا نسكن هنا؟  ولماذا وضعت هذه الصورة على الظرف؟ ....

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Rérférence

بداية الحكاية